منير شحادة
ثورة الامام الحسين (ع) ستظل شعلةً تنتقلُ من جيل إلى جيل؛ لتكون مدرسةً لكل المستضعفين في الأرض ليثوروا على الطغاة والمتغطرسين ومع الحق ضد الباطل، وإن كان الفارق كبيرًا في ميزان القوى. هذه المدرسة أثبتت أن الدمَ ينتصر على السيف، وأن لا مكان للضعفِ والخنوعِ، مع ترسيخ شعار "هيهات منا الذلة".
هذه ثقافة لن يفقهها إلّا من رضعها مع حليب الأمهات أقوال الحسين (ع)، في هذه الملحمة، خلدها التاريخ وغيَّرت مفهوم الحروب ومبادئها مع كل جيل، كان يأتي عقبت معركة الطف لتمتد إلى أيامنا هذه، والتي ستبقى مُلهِمة وتزداد توهجًا في المستقبل؛ طالما بقيت الشعوب تحىي مراسم عاشوراء وثقافتها، وتتناقلها الأجيال عبر الزمن.
"لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا، وَلَا بَطَرًا، وَلَا مُفْسِدًا، وَلَا ظَالِمًا، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ"؛ هو قائدٌ في ذلك الزمان علّمنا أنه لم يكن يسعى إلى منصب أو سلطة أو مصلحة شخصية أو يطمع بثروات الآخرين أو باحتـ.ـلال أراضي الغير، إنما رأى أن الظلم والاستبداد والجور والخروج عن القيم والمبادئ أوجب خروجه لتصحيح الخلل الكبير ولتقويم سلوك البشرية؛ ولو أحجم عن ذلك سيؤدي ذلك إلى إنهاء الرسالة النبوية والعودة إلى الجاهلية.
ذلك القول علَّم الأجيال وقادتها أنه واجب على كل مسؤول أن يتحرك، ويسعى إلى الإصلاح وأن لا يخنع للإنحراف؛ "إنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ، قدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ!" ..
ها هي "إسرائيل" تخيرّنا بين الاستسلام والذل أو الموت، فجاء جواب المقـ.ـاومة بكلام واضح "هيهات منا الذلة". وهذا الرد هو نتاج عقيدة راسخة من هذه المدرسة الكربلائية.
«أَبِالمَوْتِ تُهَدِّدُني يا ابْنَ الطُّلَقَاءِ؟! إِنَّ المَوْتَ لَنا عادَةٌ، وَكَرَامَتُنا مِنَ اللهِ الشَّهادَةُ.» و «إِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعادَةً، وَالحَياةَ مَعَ الظّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً.» قالها الحسين (ع) واعتمدتها الأجيال لنصل إلى يومنا هذا، فقالت المقـ.ـاومة لكل المندوبين الذين يرسلون لها رسائل الـ.ـعـ.ـدو إنها لن ترضخ لبنود ورقة الإذعان والاستسلام التي أتى بها "السـ.ـيـ.ـد توم برَّاك"، فكرامة المقـ.ـاومة ومؤيديها من الله الشهادة.
"إِنْ كَانَ دِينُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَسْتَقِمْ إِلَّا بِقَتْلِي، فَيَا سُيُوفُ خُذِينِي!" هذا القول الشهير الذي زُرع في عقول الأطـ.ـفال وأفئدتهم منذ نعومة أظافرهم ليكبروا ويصبحوا مقـ.ـاتلين وقادة، ويطبقونه من دون تردد، وليذهبوا إلى ساحات الوغى غير آبهين بقدرات الـ.ـعـ.ـدو، مع علمهم أن سبعين ألف جندي صهيـ.ـوني مدججين بمئات "الميركافا" وأضخم الأ سلحة، وأحدث الطا ئرات الحر بية والمسيّرات، واجهوا ببسالة ومنعوا تقدم هذا الـ.ـعـ.ـدو وكبدوه خسائر فادحة، فأجبروه على طلب وقف الحر ب، بعد التضحيات الكبيرة التي قدمها هؤلاء المقـ.ـاومون المسـ.ـلحون بعقيدة كربلاء.
أما العقيلة زينب (ع)؛ وما يحمله هذا الوصف الشريف، نظرا إلى ما تملكه من مكانة رفيعة ولشخصيتها القيادية عند أهل البيت (عليهم السلام). "العقيلة" الكريمة المصونة في أهلها، العزيزة والسـ.ـيـ.ـدة في قومها، ذات المكانة والفضل والنسب، اكتسبته لصفاتها الحميدة وعلمها الغزير وحكمتها في مواجهة الشدائد.
تخيل أنها حضرت معركة الطف، بكل مصائبها وما صار فيها من إجرام، ورأت سقوط رجالها الواحد تلو الآخر لتصل إلى القائد الأعلى وهو الحسين (ع)، حين رأت جسده المخضب بالدماء والطعنات شوّهته، وكيف قطع رأسه ووضع على الرماح، وعانت العطش مع كل من تبقى من النساء والأطـ.ـفال، والذين أصبحت مسؤولة عنهم، حمّلوا ونقلوا على الجمال سبايا وأسيرات وأسرى، يُجَرُّون في درب طويلٍ من أرض الطف، ليصلوا بهم إلى حضرة السفاح يزيد، ولتقف أمامه..
لو أي امرأة غيرها أصيبت كما أصيبت زينب (ع) ووقفت بين يدي هذا المجرم، وبحضور عدد كبير من قادته، لكنت تراها راكعة متوسلة تنتحب وتبكي، وترجوه العفو.. لكن أخت الحسين (ع) ابنة حيدر معلّمة الدروس الكربلائية وقفت منتصبة أمامه لتقول له ما "ما رَأَيْتُ إِلَّا جَميلًا. كِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللهِ لَا تَمْحُو ذِكْرَنا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنا، وَلَا يُرْحَضُ عَنْكَ عَارُها. وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ؟ وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ؟ وَجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ؟".. لتصبح هذه المرأة أيقونة النساء الحرائر في العالم ومثالًا للمرأة الشجاعة التي ترضى بقدر الله وقدره.
هذا ما جعل النساء اللواتي تخرّجن، في هذه المدرسة عبر التاريخ، أن يكنّ أمهات وأخوات صابرات محتسبات على الجور والضيم، شجاعات ينزلن إلى الميادين ويتقبلن شهادة أبنائهن وإخوتهن بقناعة، كما نراهن منذ بداية الصراع مع الـ.ـعـ.ـدو "الإسرائيلي"، وهن يقتدين بالعقيلة زينب ويصبرن كما صبرت، ويواجهن كما واجهت.
عاشوراء مدرسة التضحية ومجابهة الظلم والجور، والتي أثبتت أن الدم ينتصر على السيف، وأن العين تقاوم المخرز.